الكاتب: علي احمد مرزوك
تحية طيبة..
بداية نبارك لكم تسنمكم منصب وزير الثقافة، سائلين المولى القدير أن يمن عليكم بموفور الصحة والعافية وأن يوفقكم لأداء مهامكم لخدمة العراق وابناء شعبنا العراقي وتحقيق تطلعاته نحو مزيد من التقدم والازدهار..
املي يكبر بانكم تتلمسون الحقيقة التي سأسردها في هذا المقال، بوجوب العمل على ازالة الفوارق وتكوين الهوية، واترقب في نفوس العراقيين عند تسنمكم منصب وزير الثقافة بشائر الدعوة لبناء الهوية الوطنية والحفاظ على الذاكرة التاريخية من كل جانب، واعترف بأن هذا الأمل هو الذي دفعني الى وضع هذا المقال بين ايديكم.
إني اتألم كثيراً من ملاحظة اثار التشتت والبلبلة التي شابت الهوية الوطنية في العراق، في عصر انبعاثها الاخير ونهضتها الحديثة المأمولة بعد عام 2003، وكنت ادعو الى الحيلولة دون استشراء هذه البلبلة والسعي وراء توحيد الصف العراقي، وعليه لابد ان تتفتح الآذان لصوت الهوية، وان يكون البرهان المطلوب على قدر الرجاء في الخير المنتظر من دأبكم .
بين يديكم فكرة وطنية تستحضر ذاكرة تاريخية، تتفق عليها معظم الهويات الثقافية العراقية، لتعضيد العلاقة بين المواطن والدولة، لنصر شريعة الحب والضمير والتسامح بعد كفاح ونضال وتفان في سبيل الحفاظ على وحدة الهويات الثقافية العراقية، أمام حالات التسميم السياسي التي تمرر الفكر المتطرف المقيت، وما سببت من تحجر وانغلاق تجاه هُوية الدولة العراقية الوطنية، ناهيك عن الافعال الاميركية التي خلقت العقد والعقبات، وشوهت الدين والعادات، ومحت كل ذاكرة مشرفة تجمع مواطني هذا البلد تحت خيمة الهُوية الوطنية.
لماذا الْهُوِيَّة؟
لقد حققت قضية الهوية الوطنية الكثير من التقدم على المستوى العالمي، ولكنها تختلف على المستوى العراقي بمعدل اكبر، كما انها عرضة لأوجه التباس متعددة، فمن الواضح ان العدوان على الهوية الوطنية العراقية تجاوز كل حد محتمل، وحسبنا من ذلك الاشارة الى العنف الطائفي في السنوات (2005، 2006، 2007)، يليها العمليات الارهابية ودخول اللَّفِيف الداعشي الذي جاء من قبائل شتى واخلاط متعددة، فقد اجتمع الدنيء والعاصي والضعيف… على غاية واحدة مكونين نهجاً متطرفاً تهالك به عرش الدولة وخرقت سيادتها في العام (2014).
واهملت عملية ايجاد ذاكرة وطنية على يدِ قطاعي طرق الهوية، وتأطرت بهوياتٍ وولاءاتٍ فرعية عقيمة، فتأسيسُ الفراغ الكلي على الهُوية الثقافية الفرعية هي عملية غير سليمة، قادت إلى تعصبٍ سطحيٍ متطرف ولد عنفاً وارهاباً دون الوصول إلى تحررٍ بناء.
وتمثل ذلك بداية لتصدع الأمن الاجتماعي ووحدة العراق الوطنية في مرحلة مابعد النظام الشمولي، اذ لجأ المواطنون الى العشيرة والدين والطائفة والعرق بحثاً عن الامن في ظل تراجع الهوية الوطنية وفشل الدولة وعجزها عن اداء وظائفها وهذا الامر متوقع عند ضعف الأمن المجتمعي.
وكانت المحصلة وضع الدولة العراقية في مواجهة صراع على هويتها بسبب الخلاف بين المكونات على هذه الهوية، والتمسك بالهويات الفرعية، وضعف تجانس المجتمع العراقي، وعقيدته الوطنية العراقية، واحدث ذلك خللاً وشرخاً بين مكونات المجتمع استغلته القوى والاطراف السياسية لتحقيق مكاسب شخصية وآنية ضيقة، حتى غدونا نواجه تحدياً سياسياً غير محمود العواقب تنضوي ثناياه على مخاطر كبيرة تطال حاضرها ومستقبلها.
ولعل ما هو اخطر من ذلك، الانقسام او انعدام الاجماع بين صفوفِ النخبةِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ نفسُها حولَ الثوابتِ والقيمِ الكبرى الموجهة للمجتمع ككل، والتي لا يمكن التوصلُ الى تفاهمٍ ديمقراطيٍ شاملٍ من دونِها، وجلّ ما يعكس هذا الانقسام المواجهة العقائدية المستمرة بين من يطلقونَ على انفسهِم العلمانيين ومن يسمَّوْن بالإسلاميين.
وهكذا اصيبت عملية بناء الهوية الوطنية بالهشاشة، وحلت محلها التوازنات الطائفية او العشائرية وبحجم تهاون الدولة مع القيم العصبوية القديمة التي تجاوزها الزمن، تزايدت ميول المجتمع، الذي وحده عداؤه للدولة، للتماهي مع القيم الوطنية والمشاركة في السلطة.
إنَّ كل هذه المتغيرات الانفة الذكر – واكثر – ادت الى عدم قيام توازن عادل بين الفرد والمجتمع من اجل تحقيق (الهوية الوطنية) ونجاح التحول نحو الديمقراطية، اذ خلقت عوائق بين جماهير الشعب العراقي، ما ادى الى ايقاف طموحاته في تجاوز الوحدة والتكامل وازمة الشرعية… وغيرها، لان هذه الازمات لا يمكن ان نتجاوزها (خصوصا بعد تعرض العراق للنكسات المتمثلة، بداعش الارهابي، وازمة الانفصال، وازمة بناء السلام في المناطق المحررة (المحطمة)، وتدني الاوضاع العامة… وغيرها)، وهذا ما يؤكده (علي الدين هلال) من ان أي انجاز وحدوي او اجتماعي يكمن في تنظيم الجماهير، وتوحيدهم بهوية وطنية جامعة، وان الانجاز الذي تحققه وتحميه السلطة الحاكمة فقط في غياب المشاركة الشعبية، يفتح لجهات اخرى مغايرة ويمكنها من ايقاف أي تقدم سياسي وان تفرغه من محتواه، فالضرورة هنا بتوحيد الصف العراقي وبناء هويته.
مَتْحَف النَّصْر …
من نافلة القول إنَّ الهوية الوطنية ليست مظهراً بل هي ظاهرة لها جزئياتها تنطوي على مساحة الكل، وهي مثُل إنسانية للتواصلِ مع الواقعِ بطرقٍ عقليةٍ رشيدة، وتستحضر ذاكرة وطنية حقيقية تحتفل بها التعددية، فالهوية بلا ذاكرة… هوية عقيمة، لذلك لابد من استحضارِ الحدث التاريخي المهم (تحرير العراق من داعش الارهابي) وجعلها ذاكرة وطنية جمعاء، ومزجَها مع الواقع، بغية صناعة هوية وطنية تجمع الهويات الثقافية المختلفة وتؤطرها باطار وطني فعال.
اقترح على معاليكم بناء متحف (بانوراما) باسلوب حديث تحت عنوان (بانوراما النصر)، يجسد احداث الانتصار على داعش الارهابي، بدءاً من دخول داعش وممارساته المتطرفة البشعة بحقوق العراقيين العزل، وانتهاءً بالنصر العظيم الذي حققه (العراقيون) امام هذا اللفيف الاعمى، على ان يراعى في تكوينه الآتي:
- لا يجسد احداث طائفية او رسائل كراهية تجاه بعض الهويات الثقافية العراقية، بل يجسد الرسالة الوطنية التي اجتمعت على تثبيت اركان الدولة.
- لا ينادي ببطولات (فصيل) او (جماعة مسلحة) او (فئة معينة) ممن ساهموا في تحرير العراق؛ بل ينادي بتلك البطولات التي حققها ابناء هذا البلد تحت مسمى (المواطن).
- هذا المتحف يحتاج الى خبراء ومختصين في مجالات عدة.
ويكون هذا المتحف باكورة تنشئة اجتماعية سياسية وطنية جامعة، حيث من الممكن اجراء زيارات دورية لطلبة المدارس والجامعات وطلبة العلم والباحثين، للاطلاع على هذه الذاكرة المشرفة، فضلاً عن كونه مكاناً سياحياً متميزاً وشاهدة وطنية مميزة.
ومن الله التوفيق